ريتشارليسون- من شوارع البرازيل إلى نجومية الدوري الإنجليزي قصة صمود

المؤلف: الرياض - إبراهيم الأنصاري08.29.2025
ريتشارليسون- من شوارع البرازيل إلى نجومية الدوري الإنجليزي قصة صمود

«متشرد»، «جانح صغير»، كانت هذه الأوصاف تلاحق الفتى ريتشارليسون، بينما يداعب الكرة بمهارة فائقة في أزقة نوفا فينيسيا المتواضعة.
لكن هذا الشاب اليافع، الذي اعتاد اللعب بشغف على الأرصفة الصلبة حتى تتأذى أطراف قدميه، لم يعبأ بكلمات التقليل والإحباط، بل حوّلها إلى وقود دافعٍ نحو تحقيق حلمه، ليصبح اليوم أحد نجوم كرة القدم اللامعين وأكثرهم ثراءً.
اليوم، يتربع ريتشارليسون، النجم المتألق في صفوف فريق توتنام هوتسبير ومنتخب السامبا البرازيلي، في قلب منافسات الدوري الإنجليزي الممتاز، يساند أسرته بكل سخاء، ويثبت للعالم أجمع أن الأحلام مهما بدت بعيدة المنال، يمكن أن تصبح حقيقة ملموسة. «لم أنزلق إلى عالم الجريمة كما توقعوا، بل أنا هنا الآن، وهذا هو الأهم»، يقول ريتشارليسون بنبرة واثقة، تجسد مسيرة صمود استثنائية مليئة بالتحديات والإنجازات.
في العاشر من مايو عام 1997، ولد ريتشارليسون أندرادي في نوفا فينيسيا، الواقعة في ولاية إسبيريتو سانتو البرازيلية، وترعرع في حي بسيط، حيث كانت كرة القدم هي المتنفس الوحيد له والعالم الذي يهرب إليه من قسوة الحياة.
والده أنطونيو، الذي كان يعمل في حفر المناجم، غرس في قلبه حب كرة القدم، فكان ريتشارليسون يقضي ساعات طويلة في اللعب بالكرة في الشوارع الضيقة، غير مكترث بالجروح الطفيفة التي تخلفها الأرض الصلبة، لم تكن الحياة سهلة على الإطلاق، ففي سن السادسة، انفصل والداه، وفي لحظة وداع مؤثرة، تعلق ريتشارليسون بوالده، متوسلًا إليه أن يصطحبه معه، لكن الظروف الصعبة ساقته إلى منزل عمته أوديسيا المتواضع، وهو عبارة عن كوخ صغير يتكون من أربع غرف فقيرة. كانت أوديسيا حاملًا، وتعتني بثلاثة أطفال آخرين، وتعيش وسط تسربات مياه الأمطار وتوترات منزلية متزايدة. في هذا الكوخ الصغير، كان الجميع ينامون في سرير واحد، لكن ريتشارليسون لم يفقد شغفه بكرة القدم، وظل متمسكًا بحلمه.
في ساعات النهار، كان ريتشارليسون يذهب إلى المدرسة ويعمل في بيع المصاصات والشوكولاتة رفقة ابن عمه، وذلك بهدف الحصول على بضعة ريالات تساعده في تلبية احتياجاته الأساسية. وفي المساء، كان يسافر عبر الحافلة إلى مدينة مجاورة لحضور دروس كرة القدم والتدريب على مهاراته. ورغم ذلك، واجه انتقادات لاذعة من بعض الجيران الذين أطلقوا عليه لقب «البلطجي»، لكنه لم يستسلم لكلماتهم المحبطة، «كنت على يقين بحلمي وهدفي الذي أسعى إليه»، يقول ريتشارليسون، الذي بدأت موهبته الكروية الفذة في الظهور والتألق في سن الثالثة عشرة.
في عام 2013، انضم ريتشارليسون إلى نادي ريال نورويستي، متخليًا بذلك عن لقب «شارلينيو» الذي كان يعرف به في طفولته. ثم انتقل بعد ذلك إلى نادي أمريكا-إم جي في عام 2015، حيث تمكن من تسجيل أول أهدافه الاحترافية التي فتحت له أبواب الشهرة والنجومية. وفي خطوة متقدمة، وقّع ريتشارليسون مع فلومينينسي، ليخطو خطوة كبيرة نحو العالمية في عام 2017 بانضمامه إلى نادي واتفورد في الدوري الإنجليزي الممتاز. وفي عام 2018، حقق إنجازًا تاريخيًا بانتقاله إلى نادي إيفرتون في صفقة قياسية بلغت قيمتها 45 مليون جنيه إسترليني، قبل أن ينتقل في عام 2022 إلى توتنام هوتسبير، ليصبح أحد أبرز نجوم الدوري الإنجليزي ويثبت جدارته وأهميته للفريق اللندني، وذلك حين سجل هدفين رائعين في المباراة التي فاز فيها فريقه على بيرنلي بثلاثية نظيفة في الدوري الإنجليزي الممتاز يوم السبت.
على الصعيد الدولي، حمل ريتشارليسون على عاتقه آمال الشعب البرازيلي في الفوز بكأس العالم 2022 في قطر، لكنه عاش لحظات عصيبة ومؤلمة بعد الخروج من البطولة.
شوهد ريتشارليسون وهو يبكي بحرقة في غرفة تبديل الملابس، قائلاً بحسرة وأسى: «لقد أضعنا فرصة الفوز باللقب، لا أريد التحدث مع أحد». هذه الدموع الصادقة عكست شغفه العميق بكرة القدم وإحساسه بالمسؤولية تجاه منتخب بلاده، كما تجسد أيضًا إنسانيته الكبيرة في علاقته بعمته أوديسيا. كان يحمي ابنها الذي لم يولد بعد من الضوضاء الناتجة عن الخلافات المنزلية من خلال تشغيل الموسيقى عبر سماعات الهاتف، ولاحقًا ساعدها في سداد قرض منزلها المتراكم وأهداها دراجة نارية جديدة. تقول أوديسيا بفخر واعتزاز: «كانوا يطلقون عليه لقب بلطجي، لكنني لم أشك فيه إطلاقًا، كنت أعرف معدنه الأصيل».
وفي تصريحات أدلى بها لمجلة «فور فور تو»، يتذكر ريتشارليسون أيامه في الطفولة: «الكثير من أصدقائي انتهى بهم المطاف في السجن أو لقوا حتفهم.. كنت قريبًا جدًا من الانزلاق إلى عالم الجريمة، لكنني اخترت طريقًا آخر.. أنا الآن ألعب في الدوري الإنجليزي الممتاز، وأساعد عائلتي، وأعيش حلمي الذي طالما راودني».
في إنجلترا، أتقن ريتشارليسون اللغة الإنجليزية، وحصل على تأشيرة إقامة لمدة ثلاثة أعوام، وأصبح يعيش بمفرده، متكيفًا مع بيئة جديدة بثقة وثبات.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، يتفاعل ريتشارليسون بروح مرحة ودعابة، متجاهلًا التعليقات السلبية والانتقادات الهدامة: «إذا فكرت فيما سيقوله الآخرون عنك، فلن تتمكن من نشر أي شيء». هذا النهج الجريء يعكس شخصيته القوية والعنيدة، التي تجمع بين الإصرار والعزيمة والوفاء والإخلاص.


سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة